jeudi 3 décembre 2009

"أخيرا وجدتها"


قصة قصيرة
عيسى شريط

"أخيرا وجدتها"..اعترف قلبه العليل وقد أفرج عن صرخة مترنمة يملؤها فرح افتقده منذ عمر مضى..اخضرت شرايينه وتناغمت الدقات ثملة تتراقص على لحن نعومة الإحساس الجميل..ما أروع الشعور بالفرح.."أخيرا وجدتها"..مازال صدى الاعتراف يتردد في جوفه، يطهره من تلوث كل الأصوات، يزيح عن فضائه المتعب تعفن هذا العالم الذي اعتنق هول الجفاء والضغينة...

حين تهالك جسده المنهك على ذلك الكرسي المهمل خارج إحدى المقاهي الكثيرة جدا في هذه الأيام العطشى، كان لا يزال منتشيا باللقاء الذي جمعهما لأول مرة أمس فقط، بإحدى محلات "الفاست فود" الكثيرة جدا في هذه الأيام الجائعة..كانت تجلس قبالته وقد توحدت بجمال الكون، تبدو ملكة على عرش نساء الأرض، وبدت بعضهن اللواتي كنا في المحل وصيفات يشدهن إليها ولاء الإعجاب والغيرة، أخذن يختلسن النظر إليها في كل حين بعيون تصادرها رغبة الفضول والسؤال..وكانت عيناه ممغنطة الى وجهها الطفولي وقلبه يستبشر غير مصدق "أخيرا وجدتها"...

بينما يرتشف القهوة بلذة متناغمة وهذه اللحظة المجنونة، أعاده في غفلة تلوث المحيط الى واقع يكرهه أفسد أحلامه، وتاه يصف في سره، المكان وما يحدث قبالته وقد نسي انتشاءه باللقاء..ركام من بقايا البناء لا لون لها..بركة متعفنة تجمعت مياهها إثر المزن الأخير، وتلك الريح تنقل الى رئتيه هواءها النتن..خلف البركة تبدو هياكل خراسانية تشبه المباني..تركن قبالتها شاحنات هرمة صدئة تعتم المكان أكثر..طفل يدفع بعربة، كان ربما في السوق يمتهن "الحمالة"، يبدو أن الأطفال يعملون كثيرا في هذه الأيام الجشعة..طفل أخر يمر من هنا، يقود شيئا يشبه دراجة هوائية..من هناك، طفل ثالث يقف قرب عمود كهربائي يتوسط هذا الفضاء العفن، يبحث وسط خردة وفضلات عن أي شيء يمكن استعماله مرة أخرى أو بيعه، كل الأشياء تباع في هذه الأيام الخردة..بعض المارة يتحركون في كل الاتجاهات، يحاولون إخفاء رؤوسهم من الغبار الصاعد الآن..لفت انتباهه كائن بنائي يعلوه هوائي الهاتف الجوال..اقشعر جلده حين فكر بأن هذه البناية قد تكون مسكونة بالأرواح الشريرة، يبدو تصميمها كبيوت مصاصي الدماء تماما التي شاهدها بأفلام الرعب..جرو هزيل يتيم يمر من هنا، يحك بدنه الضامر جدا بأحد أطرافه حينا، وبأسنانه حينا أخر، حركات تعري ألما أكيد.."يشمشم" عله يجد ما يسد به الرمق، لا شيء سوى الحجارة وتلك البركة العفنة.. اقترب الجرو أكثر.."يا إلهي" إنه مصاب ينزف..لعل أحد الأطفال فعل به ذلك، أو ربما أولئك المارة الذين يتحركون في كل الاتجاهات ويخبؤون رؤوسهم..مازال يتأمل هذا المكان البائس ويرتشف القهوة..تلك الرايات مختلفة الألوان والأحجام المعلقة على طول الطريق العام تفضح مناسبة ما، لم تتمكن من موارة مصيبة التخلف والنفاق...

بينما يحاول امتصاص تلك الزفرة المخنوقة من هول التأسف واليأس التي طفحت من جوفه، رن "البرتابل"..أسرع الى الرد حين قرأ اسمها على شاشة الهاتف..سرعان ما تاه عن المكان والواقع وكانت عذوبة صوتها تزرعه غبطة أكثر..ما أروع الشعور بالفرح..تمنى لو يدوم هذا الإحساس الى يوم الدين ويبعث على هذه الحال..لكن صوتها قرر حالا أخرى عبر تلك الكلمات القاتلة التي لوثت سمعه وأتت على الدنيا، فانهار حلمه ولحق مزفا بواقع هذا المكان العفن، قد حسمت هذه التي وجدها أخيرا، موقفها وأنهت العلاقة في المهد..داهمته رغبة متوسلة اختزلت الحزن الكوني وأخذ يبوح ( قد صرت الآن مستباحا، افعلي بي ما يحلو لك..ارمي جسدي قربانا للتيه والبراري، انثري أشلاءه كما الجيفة تنثر للخواتل..فلن أقاوم..هو الود يا سيدتي استباحني حين أسرى في غفلة، مسرى دمي، انتحرت في كل الأشياء والقيم..زرعني مذلة أعشقها..قد صرت الآن مستباحا، دثريني بالقهر، بالعار..فلن أقاوم..تأكدي فقط بأني سأظل أردد "أخيرا وجدتها..أخيرا وجدتها"..لا تحاولي منعي..سوف أقاوم...)

اضطربت دقات قلبه واختل تناغمها، عاد ليحتضن حزنه الأبدي..صار يشبه هذا المكان تماما..بعفوية أخذت يده تدلك على صدره تحاول التخفيف من شعوره بالألم..تذكر الجرو النزف..خبأ رأسه بطرف الجاكيط يريد الاحتماء من هول عاصفة الغبار التي بدأ المحيط يتأهب لاستقبالها..لا أحد يبدو في هذا المكان العفن سواه...

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire