vendredi 4 décembre 2009

مطلع رواية الكائن الذي يشبه المدينة



الكائن الذي يشبه المدينة
رواية
عيسى شريط




في زمن ما وبإحدى الكائنات التي تشبه المدن حدث أو ربما قد يحدث..لا يهم...

...طفح السيل وفاقت معاناته حد الصبر والاحتمال.. لا يملك "الزبير" صبر أيوب كي يستمر على هذه الحال.. (إنما أنا بشر) كم تروقه هذه الاستغاثة النبوية يرددها كلما صادرته المواجع..(إنما أنا بشر) إن دامت حاله هذه سينتهي يقينا الى ذروة اليأس والى حتفه..قد طال زمن البكاء وخرّب الملح خصوبة الوجه..جفت ينابيع الدمع ولم تعد عيناه ساقية تثلج صهد النوائب التي تمكّنت من بدنه المتصدع الواهن..حين يسير يبدو مثقلا بهول الظلم والجحود، تتأسف الأشياء من حوله تهمس في تحسر موجع (يااااه يا الزبير!..أي هول هذا الذي حل بك وأية فجيعة!..قد انحنت هامتك وبرزت كتفاك، أنت الآن، تبدو كالمصلوب تماما!..متعب أنت " يا الزبير" مثل الخريف والماء، وهذي الفضاءات الممتدة في جسدك ظمأ وفناء..متعب أنت "يا الزبير" مثل التاريخ والإنسان، وهذا الوطن الذي لا حدود لشساعته لكنه يبدو مختزلا في حيّز ضيّق لا يستطيع احتواء أبنائه الذين لا يخجلون من البوح بذلك، ومن هجرته أيضا.. متعب أنت "يا الزبير" مثل العمر، وهذي الكائنات المحنطة التي تصادرك منذ الأزل بهذا الكائن الذي يشبه المدينة..يااااه يا الزبير يا خويا!..) تتأسف كل الأشياء تلعن الواقع..ويستسلم "الزبير" كما المومس تستلم، مبديا كل رضاه لشهوة المهيمنين على لقمة العيش..(إنما أنا بشر) استغاث هذه المرة بعدما نفذ الصبر، لابد إذًا، من قرار حاسم يبعث بذرة الحياة المنسية في جسده..النسيان تلك النعمة المنسية..اللعنة على الواقع، وعلى هذا الكائن الذي يشبه المدينة... 
(آه، أيها الأصدقاء..أي ركن في الأرض
يمكنه أن يخفيني حتى أبكي هناك،
 وقد لفني الليل الى الأبد؟..أنا لا أقوى أبدا
أن أطوف العالم، وأحلق تحليق العظماء..)
لا يدري "الزبير" لماذا تحضره هذه الكلمات، لعل روح "هلدرلين" تطوف حوله الآن، تزرع فيه إحساسها بالضياع.."هلدرلين" ذلك الشاعر المجنون الذي عجزت كل الأماكن عن احتواء عظمة جنونه، قضى حياته هائما بين المدن والقرى بحثا عن لقمة العيش، عن الحقيقة، وعن الحب..لقمة العيش هذه التي صارت نقمة تحاصر الأهالي، جعلت أيامهم تتشابه كأسنان المشط، لوثت عيونهم، لم تعد ترى الجمال..وحدهم الدهماء يهيمنون على لقمة العيش باسم كل القيم، باسم الثورات والإيديولوجيات والتاريخ والوطن وباسم الدين أيضا، توحّدوا في جمعية للقبح شعارها "يسقط الجمال" لها أغانيها وقصائدها وخطبها التي تمجد القبح وأخذوا يعيثون فسادا في كل الأشياء، وفي هذا الكائن الذي يشبه المدينة، كي يكرسوا فلسفتهم التي قتلت "هلدرلين"..وستقتل "الزبير" بالتأكيد..
..وأتت الأفكار المجنونة على "هلدرلين"، أقنعته بأن كل القيم التي تتغنى بها الإنسانية، هلامية بلا قيمة حين تلامس الواقع..قد جرب كل الأشياء، كل الفلسفات..كلما تعمق فيها أكثر بدت له هلامية عقيمة..لا الصداقة أثمرت، لا العشرة، لا الوطنية، ولا الحب أيضا، فاحتواه فضاء الجنون..كأن "الزبير" الآن يقاسمه أشياءه وجنونه على الرغم من أن شعره وفلسفته لم يرتقيا الى مستوى تجربة هلدرلين لأنهما مصادران من قبل المهيمنين على لقمة العيش..وحده الجنون تحرر من حصار هذه النقمة، مأواه الوحيد يروض له كل الأشياء ويبيح له السفر عبر الكون بلا قيود، يطوف حول العالم، يحلق إن شاء، تحليق العظماء..لا تخوم في حضرة الجنون ولا قيم..الجنون حرية، بل حياة أخرى...
(آه، أيها الأصدقاء..أي ركن في الأرض
يمكنه أن يخفيني حتى أبكي هناك،
 وقد لفني الليل الى الأبد؟..أنا لا أقوى أبدا
أن أطوف العالم، وأحلق تحليق العظماء..)
ما أثلج هذه الكلمات على صدر "الزبير"، كلما قرأها، تتحرر أشياؤه المحبطة..منذ زمن، وهو مثقل بالعطاس والتّمخط، لعلها أثار رطوبة ذلك الركن المظلم موطن اعتكافه..القلق المبهم الذي يصادره دوما، أخل ببساطة حياته (هي حياة تافهة نحياها، أيامها تتشابه كأسنان المشط) هكذا دوما يكرر..كم من مرة حاول، التمرد عن أمر واقعه، عن مصيره، وعن ذاته، لكنه عبثا يحاول..راودته في يوم فكرة كتابة مذكراته، كان ذلك منذ أكثر من أربعين سنة، اقتنى كراسا جميلا وشرع في كتابة أول الذكريات، تفاصيل يوم عاد احتوتها صفحة يتيمة، ولم يكتب شيئا أخر حين أدرك أن حياته انحصرت في ورقة واحدة..حياة عقيمة كل أيامها تتشابه كأسنان المشط، هي بذلك لا تستدعي تدوينها..فعل ذلك وهو يدرك بأن حكمه مغال، الحياة مهما كانت بساطتها، مهما تشابهت أيامها لا تخلو أبدا من التجربة ومن الذكرى المتجددة..كل يوم يغدو، لا يمكن لليوم الموالي أن يكون شبيهه..كلما أشرقت الشمس، يشرق يوم جديد..
(الحياة موت، والموت أيضا حياة) هكذا اعتقد "هلدرلين" في سنوات جنونه، فإذا ما اعتقد  "الزبير" بأن حياته لا يمكن تشبيهها إلا بالموت، فهي في النهاية حياة..كان حكمه المغالي انسياق خلف نفسه المغامرة الباحثة دوما، عن تغيير مجرى حياة..
(النجاح هو أن يكون المرء راض عن نفسه) بهذا التحسر يحاول دائما إقناع نفسه وتعزيتها أيضا.. غالبا ما يحتمي بركنه المظلم، يهرب من أيامه التي تتشابه كأسنان المشط، يعتنق ذلك النص المأوى الذي يساعده في كل مرة، على امتصاص ضياعه..  
(آه، أيها الأصدقاء..أي ركن في الأرض
يمكنه أن يخفيني حتى أبكي هناك،
 وقد لفني الليل الى الأبد؟..أنا لا أقوى أبدا
أن أطوف العالم، وأحلق تحليق العظماء..)
كلما نفذ صبره وانتابه الشعور بالضيم، يتوارى خلف قراءة هذا النص اليتيم، تبناه منذ زمن حتى توحّد ووجدانه، واقتنع بأنه كاتبه..(النص ليس ملكا لكاتبه بل لقارئه لأنه المستهدف في النهاية ومن حقه أن يتبناه طالما جمعته به تلك الخيوط الروحية السحرية، أو كان بمثابة المأوى يسكن إليه ليساعده على تجاوز لحظاته المقهورة الحزينة) هكذا يردد دوما بشيء من اليقين...

1 commentaire: